وصل القس الجديد وزوجته، المُعيَّن حديثاً في كنيسة قديمة في ضواحي بروكلين بأمريكا لإعادة فتحها، وكان ذلك في أوائل أكتوبر. وكانا مُتحمِّسَين للخدمة المدعوَّين لها هناك. وعندما نظرا كنيستهما لأول مرة، صُدِما إذ رأياها تحتاج للكثير من العمل لتجديدها. ووضعا هدفاً أمامهما أن يتمَّ كل شيء في الوقت المناسب ليمكن أداء أول خدمة كنسية يؤدِّيها القس عشية عيد الميلاد المجيد (25 ديسمبر - حسب التقويم الغربي). وبدآ بالعمل الجاد: أولاً إصلاح المقاعد، ثم طلاء الجدران، وتجهيز الأيقونات وغيرها.
وقبل الموعد المحدَّد لإنجاز العمل الذي كان على وشك الانتهاء منه، إذا بعاصفة رهيبة تهبُّ على المنطقة في يوم 19 ديسمبر، كانت عاصفة مُمطرة ضربت المنطقة كلها واستمرت لمدة يومين.
وفي يوم 21 ديسمبر، توجَّه القس إلى الكنيسة. وعندما رأى أن سقف الكنيسة قد تسرَّبت منه مياه الأمطار، ذاب قلبه فيه؛ إذ قد تسرَّبت المياه على مساحة واسعة من الجدار المدهون بالطلاء لمساحة نحو 20 قدماً في 8 أقدام لتعمل فجوة في الجدار الأمامي من الهيكل خلف المنبر. وتولَّى الراعي تنظيف الركام من على الأرض، وإذ لم يعرف ماذا يفعل سوى تأجيل الخدمة عشية عيد الميلاد، عاد منكسر الخاطر إلى بيته.
وفي الطريق لاحَظ أن أحد المحلات التجارية المحلية كان يُعلِن عن أوكازيون لبيع السلع المستعملة لصالح الأعمال الخيرية، حتى أنه توقَّف هناك. ورأى ضمن المعروضات قطعة قماش جميلة مصنوعة يدوياً وذات لون عاجي، وهي مِفْرَش مائدة بالكروشيه (نسيج مُطرَّز ”بإبرة معقوفة“) مع لوحة رائعة بالألوان الجميلة، وبصليب مُطرَّز في وسط المفرَش. وكان حجم المفرش هو نفسه تماماً نفس حجم ثقب الجدار الأمامي في الكنيسة.
اشترى الراعي هذا المفرش الجميل الثمين وسار عائداً إلى الكنيسة. وبحلول وقت عشية عيد الميلاد كانت قد بدأت الثلوج تغطِّي المباني والطرق.
وفي طريق عودته إلى الكنيسة رأى سيدة مُسنَّة تجري في الاتجاه المعاكس للطريق وهي تحاول اللحاق بسيارة الأتوبيس، ولكنها لم تلحقه. ودعاها القس إلى الانتظار داخل الكنيسة الدافئة، لأن الموعد التالي لوصول سيارة الأتوبيس القادمة سيكون بعد 45 دقيقة.
جلست السيدة على أحد مقاعد الكنيسة ولم تعطي أي اهتمام للراعي الذي كان قد استطاع الحصول على سُلَّم، وعلاَّقات، وما إلى ذلك، لتعليق مفرش المائدة كأنه سجادة فنية لتغطية فجوة الجدار. ولم يصدِّق القس نفسه وهو يتأمَّلها كم هي جميلة حقّاً وقد غطَّت على المنطقة المثقوبة من الجدار والتي تسبَّبت في مشكلة.
ولاحَظ القس المرأة وهي تتمشَّي في الممر المتوسط. كان وجهها مُمتَقِعاً كمثل صفحة بيضاء. وتساءلت السيدة: ”يا قدس القس، من أين لك مِفْرش المائدة هذا؟“. وأوضح القس لها كيفية شرائه له.
وعادت المرأة تسأله أن يتحقَّق لمعرفة ما إذا كان هناك أحرف أُولى: ”EBG“ مُطرَّزة بالكروشيه عند الزاوية اليُمنى السفلى لهذا المِفرش المُعلَّق! كانت هذه هي الأحرف الأولى لاسم السيدة، فقد كانت هي التي صنعت مفرش المائدة هذا قبل 35 سنة، في النمسا. وبالكاد كان يمكن للمرأة أن تُصدِّق ما قاله القس عن كيف حصل للتوِّ على مفرش المائدة هذا.
وبدأت السيدة توضِّح أنه قبل الحرب العالمية الثانية (1939-1945) كانت هي وزوجها من ذوي الأملاك في النمسا. وعندما وصل النازيون إلى النمسا، أُجْبِرَت على الرحيل. وكان على زوجها أن يلحقها في الأسبوع التالي. لكنها اعتُقِلَت وأُرسِلَت إلى السجن ولم تَرَ زوجها ولا منزلها مرة أخرى.
عرض القس أن يُعطيها مِفْرَش المائدة، لكنها طلبت من القس أن يحتفظ به للكنيسة. وأصرَّ القس على توصيلها بسيارته إلى منزلها، فهذا كان أقل ما يمكن أن يفعله مقابل ذلك. كانت السيدة تعيش في الجانب الآخر من ”ستاتن آيلاند“، وكانت تأتي إلى ”بروكلين“ فقط في هذا اليوم لتؤدِّي وظيفة تنظيف المنازل.
وفي ليلة عيد الميلاد، ما كان أروع الخدمة التي أدَّاها القس هو وزوجته وشعب كنيسته. كانت الكنيسة مكتظَّة بالمُصلِّين. كانت الألحان والروح السائدة على أعلى مستوى من الإتقان والفرح. وفي نهاية الخدمة، حيَّا القس وزوجته الجميع واحداً واحداً على الباب، وقال العديد منهم إنهم سوف يعودون مرة أخرى للكنيسة. واحد فقط منهم، وهو رجل كبير السن، كان القس يعرفه من الحي، هذا الرجل استمر في الجلوس على أحد المقاعد وهو يوالي التحديق، وتعجَّب القس في نفسه: لماذا لم ينصرف هذا الرجل؟ وسأل الرجل القس: من أين حصل على مفرش المائدة المُعلَّق على الجدار الأمامي، لأنه كان مُطابقاً تماماً لمِفرَش صنعته زوجته قبل سنوات عندما كانا يعيشان في النمسا قبل الحرب العالمية الثانية؟ وكيف يمكن أن يكون هناك مِفرَشان متطابقان تماماً إلى هذا الحدِّ؟
وأخبر الرجل المُسِن القس كيف وصل النازيون إلى النمسا، وكيف أنه أَجبر زوجته على الفرار حرصاً على سلامتها، وكان من المفترض أن يلحق بها، ولكن تمَّ القبض عليه ووُضِع في السجن. إنه لم يَرَ زوجته ولا بيته مرة أخرى طيلة الـ 35 سنة الماضية.
سأله القس: ما إذا كان يسمح له أن يأخذه لجولة صغيرة في الخارج؟!
وسارا بالسيارة حتى وصلا إلى ”ستاتن آيلاند“، وإلى نفس المنزل حيث أَوصل القس السيدة العجوز قبل ثلاثة أيام.
وساعد القس الرجل على تسلُّق الدَّرَج لثلاث طبقات إلى شقة السيدة العجوز، وطَرَقَ على الباب، ورأى أعظم إنجاز في لَمِّ شمل أسرة في عيد الميلاد ما كان لا يمكن أن يتصوَّر حدوثه في أي وقت مضى.
«ولكن الآن في المسيح يسوع، أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين، صرتم قريبين بدم المسيح. لأنه هو سلامنا، الذي جعل الاثنين واحداً، ونقض حائط السياج المتوسط أي العداوة... فجاء وبشَّركم بسلام، أنتم البعيدين والقريبين. لأن به لنا كلينا قُدُوماً في روح واحد إلى الآب. فلستم إذاً بعد غُرباء ونُزُلاً، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله» (أف 2: 14،13، 18،17).
----------------------------------------------
هذه القصة سردها لأول مرة أحد القسوس في أمريكا عام 1954، حينما نشر القصة في مجلة: ريدرز دايجست Reader's Digest - عدد ديسمبر 1954، بينما كان تاريخ الغزو الألماني للنمسا عام 1938. فتكون المدة التي قضاها الزوجان متباعدَيْن حوالي 16 سنة.
إرسال تعليق