كان رجلاً عادياً ، ليس من المتدينين المترددين على الكنيسة ، وفى اعترافاته لم يكن يعرف معنى التوبة ، فكان كثير الخطأ والسقوط ، لكنه كان طيب القلب جداً ، ورقيق المشاعر إلى أبعد الحدود . تجول بحكم وظيفته ، كمدرس ، حتى استقر به الحال ، بعدما تزوج وأنجب الأولاد ، فى إحدى مدن الصعيد المطلة على النيل ، لذلك اعتاد كثيراً أن يركب مركباً فى النيل هو وأولاده وبعض الأصدقاء . وفى إحدى المرات ، أثناء أجازة نصف السنة ، ركب المركب كعادته وكان معه ابنه الوحيد ، بينما زوجته وبناته فضلن الإنتظار فى المنزل. اكتظ المركب الصغير بالشبان ، صار فى عرض النيل ، فجأة اندفع الشبان فى لهوهم وتهريجهم إلى جانب واحد ، اختل التوازن فانقلبت المركب بالجميع . صرخ الرجل من عمق قلبه صرخة عميقة إلى الله، لأنه لم يكن يعرف العوم ، ولا إبنه أيضاً . لم يصرخ إلى الله فى حياته كلها مثل هذه الصرخة . بعدها أحس بيدين حانيتين تحملانه . شعر بهما فعلاً وبطريقة حسية كاملة . حملته اليدان إلى الشاطئ وهو يحتضن وحيده . لم ينجُ من الموت يومئذ سوى هذا الشخص وولده ، وكانت البداية ! بداية حياة جديدة .. صلوات لم يذق طعمها من قبل .. عزوف كامل عن زخارف العالم الكاذب واحتقار لكل أباطيله .. انفتح أمامه مجال أسمى بما لا يقاس ، فحوّل الأيام كرصيد له فى السماء . وكذبيحة شكر لله ، نذر صوماً للتوبة والرجوع إلى الله ، فلا يفطر إلا بعد رجوعه من عمله بعد الظهر وبعد أن يصلى صلاة الساعة التاسعة ثم يستريح قليلاً ، بعدها يدخل حجرة مكتبه ، وقد خصصها للصلاة ، ويظل شاخصاً إلى السماء يصلى من أعماقه ، ويتمتع بالمزامير والتسابيح ويعكف على كتابه المقدس يأكل من مشتهياته ويتتلمذ عند قدمىّ قديسيه . وحرارته الروحية تزداد يوماً بعد يوم لكن فى اتزان كامل . وفى ليلة من ليالى الصلاة هذه ، وبينما هو شاخص إلى السماء ، إذا بسقف الحجرة وكأنه غير موجود ، وإذا السماوات مفتوحة !! انذهل عقل الرجل من فرط الحب الإلهى ، وتثقل بمشاعر الاتضاع وعدم الاستحقاق .. لقد كشف الرب بصيرته ليرى ما لا يُرى .. وقد احتفظ الرجل بهذه الأمور فى قلبه لم يَبُح بها لإنسان على وجه الأرض. منذ حادث المركب ، والرجل يذهب إلى الكنيسة بانتظام ، مواظباً على القداسات والعشيات والاجتماعات ، هادئاً وديعاً . صار القداس الإلهى هو أشهى ماله على الأرض، تنحدر أثناءه دموعه كالنهر، وهو واقف بجوار الهيكل ، بعد أن كان القداس مملاً وثقيلاً على نفسه ، ولم يكن يطيق البقاء فى الكنيسة . فى أحد القداسات ، وبينما الكاهن يصلى مجمع الآباء ، وإذ بالرجل يرى أولئك الآباء القديسين يملأون الهيكل واحداً فواحداً . وكلما ذكر الكاهن إسماً ، ظهر هذا القديس لينضم إلى خورس النورانيين ! بعد مرور السنين ، شهد الجميع أن الرجل صار مثلاً للحياة المسيحية وتجسيداً للوصايا الإنجيلية .. حلواً مع الجميع .. خادماً وباذلاً نفسه للجميع . وكان كلما إزداد الرجل بهاءاً وقداسة ، كلما إزداد عليه حنق إبليس الذى يجول كأسد زائر ملتمساً من يبتلعه ، خصوصاً أن الرجل ، رغم قداسته واعلانات الله له ، لم يكن محنكاً فى الحروب الروحية ، ولا هو متتلمذ على أب حكيم أو مدبر ذى بصيرة . بدأت الحرب بشكوى الجسد : أعراض مرض ، وضعف الجسد واحتياجه للراحة والغذاء ، فتور فى الصلاة .. خطوات واضحة فى طريق الكسل !ابتدأ العالم ينساب قليلاً قليلاً إلى داخل حياته ، ودارت الأيام دورتها ، وغرقت سفينة الحياة الجديدة ، ونجح إبليس فى حيلته ، وعاد الرجل إلى سيرته الأولى !! كان يفيق بين الحين والآخر ، يتذكر مجد التوبة والحياة مع الله فيجمع أشلاءه وينتصب للصلاة .. كلمات فاترة ، صلاة بلا طعم ولا تأثير .. حضور القداس بلا اشتياق .. قراءة الإنجيل صارت واجباً ثقيلاً .. كان يتأسف فى قلبه ويندم ويتحسر على أيام زمان ، لكن رويداً رويداً تلاشى الندم ومات الضمير . رجع إلى أصدقاء الشر ورجعت إليه سقطاته القديمة . تُرى .. هل من رجوع هل يترك الله أولاده ألا ينقذهم من فم الأسد ألا ينتشلهم ليقودهم فى موكب نصرته كل حين بالمسيح يسوع بلى ، ينقذهم وينتشلهم .. فقد عادت النعمة تفتقد هذا الإنسان البائس ، وقد ناهز الستين من عمره . تقدم إلى الله بنفس منكسرة ، يطلب الرجوع والقبول . بدأت الحياة تجرى فى مجراها ، وبدأ السعى فى طريق الأبدية . جاءنى الرجل وجلس إلى جوارى ، شيخ وقور ، يعترف . وابتدأ فى الكلام ، ودموعه تنساب فى غزارة لم أرى مثلها . قال : الآن علمت أن الرب صالح وطيب وقابل للخطاة . وتحققت أنه مهما كثرت خطايانا ، فدم يسوع المسيح يطهر من كل خطية . وحيث كثرت خطايانا ازدادت النعمة جداً . لقد ظننت أنه لا رجوع لى إلى رتبتى الأولى وأيام توبتى الأولى ، ولكن ما لا استحقه بعد كثرة خطاياى أعادته النعمة لى . قلت له : كيف كان ذلك قال : دخلت الكنيسة بالأمس ، وكان قد انقطع عهدى بالمناظر الإلهية والاعلانات ، لكثرة خطاياى وفتورى ، وظننت أنه لا عودة إلى قامتى ومقامى الأول . ولكن للعجب الشديد انفتحت بصيرتى مرة أخرى ، ورأيت الهيكل وقد امتلأ بأرواح القديسين والملائكة فى ساعة التقديس ، فعادت نفسى إلى مسكنتها الأولى واتضاعها وفرحها . وتأكدت أن الله يوازن كثرة خطايانا بغزارة محبته ، وأن باب التوبة مفتوح أمام أشر الخطاة . وقد جمل الرب حياة هذا الرجل بالآلام فى ختام أيامه ، فكان يتزكى قدام الرب كل يوم ، فى صبر وشكر ورضى وتسبيح لا ينقطع ، إلى أن إنضم إلى مصاف النورانيين لينعم بكمال العربون الذى ذاقه وهو بعد فى الجسد

الخميس، 15 أكتوبر 2009
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)

-
▼
2009
(390)
-
▼
أكتوبر
(346)
- الباحث عن النار
- ساكن الأعالي
- الخدمة هي حل الوحدة
- عدس لا ينتهي
- لو عاوز تشوف الرب يسوع
- عازف الكمان و الشحات الفقير
- الطفل الذي أبكى يسوع
- كن أمينا للموت
- الخدمة هي حل المشغولية
- هل لك عذر ؟؟
- الخدمة هي حل الشهوة
- الخدمة هي حل الارتداد
- أين ترعي يا حبيبي يسوع ؟
- كيف تتم صناعة الغباء ...بوربوينت
- هناك أعطيك حبي ..بوربوينت
- الموسوعة الكاملة لمذكراتي عن حياة البابا كيرلس
- كان
- قؤيتها كتييير
- الغرق
- أنت سماء و إلى السماء تعود
- كنيسة جديدة
- أوفي النذر
- يوسف الصديق في أمريكا
- يارب حتى حجر السن !!
- ممكن دقيقة ؟
- كيف تقدم الجنس لأولادك ومخدوميك ...أ‘ظم من السماء ...
- الخدمة هي حل لتجربة و الألم
- الخدمة هي حل العقلانية
- جاذبية الكتاب المقدس
- الخروف الناصح
- لماذا أعيش
- قصة واقعية ..كله للخير
- أبي و أمي أحاول أن أغفر لكما لكني لا أستطيع
- الخدمة هي حل الفشل
- لمسة من يد السيد
- أدخل السماء في ربع ساعة و كله بالقانون
- هل تحبني ؟
- للشوك فوائد
- هدية أم اهاانة
- الرجل الفيل
- جروح روحية
- قصة حشرة ..الهارد تيك
- كلمة محبة
- الخدمة هي حل المرض
- أكاليل المجد
- أنا هغير بابا
- الخدمة هي حل الأنانية و الذات
- القناة الضيقة
- عادت للحياة
- استثمر وزناتك
- النفوس أغلى من الفلوس
- لماذا خاب هذه المرة
- الشاب المستهتر الذي صار قديساً
- تطريز الله
- المساواة و العدل
- حكمة حصان
- في يوم خوفي أنا أتكل عليك
- لا تمت بسمي
- لتكتسح النباتات الزوان
- صليبك يحميني
- قيمة حياتك
- قيمة حياتك
- لنعمل و نجتهد الآن
- قصة رائعة
- هذه أعجوبة يا ابني فالله يهتم بي
- رأتك عيني
- محبة الأعداء
- محبة لا تسقط أبداً
- كم من مرة دعوتك
- إلى من تسمع
- ياعم يا مجرم يسوع بيحبك
- الخروف اللي مش كامل
- زائر على عكس العادة
- الثلاث حروف ثيتا
- اسحق الصعيدي
- كل الأشياء تعمل معاً للخير
- على فراش الموت
- جروح الخلاص من الموت
- مجرد آية
- أشكر الله
- من هو ؟؟
- طريق وسط الثلوج
- ادعوني في وقت الضيق
- الإبن الحقيقي
- الألم .. أعمق ما في الحياة
- الراعي كسر قدمي
- خليك أمين
- الغفران
- غباوة سجين
- أنا محبوب الله
- هب لي أن أفرح بعطاياك
- يطلب ما قد هلك
- مفيش فايدة
- دفعا الكثير
- هل هو حقاً جسدك يارب ؟
- الساذج
- أريد أن أقتني ما تقتنيه أنت
- لا تخف
- التقدمة الخفية
- فورد يصلح سيارته
-
▼
أكتوبر
(346)
إرسال تعليق