الأربعاء، 21 سبتمبر 2011

حدث بالفعل

حكايتنا قديمة هذه المرة ، حدثت منذ عشرين عاما ، حيث كنت طالبا في مدرسة ….. الثانوية بنين ، في الصف الثالث الثانوي بالتحديد ، في هذه الفترة لم تكن الثانوية العامة كابوسا كالذي يواجهه الطلبة اليوم ، لم تكن صداعا ينبض في أمخاخ كل أفراد الأسرة المصرية ، بل حتى الدروس الخصوصية كانت وصمة عار ، فالطالب الذي لاينجح إلا بالدروس الخصوصية هو طالب فاشل.
أهم ما ميز مدرستنا في ذلك الزمان هو مدرس الرياضيات أستاذ صبحي ( هذا اسم مستعار ) ، فهذا المدرس كان حديث المدرسة كلها ، فهو مدرس غير شريف بكل ما تحمله الكلمة من معان ، سليط اللسان لدرجة لا تتخيلها ، فجميع أنواع السباب والشتائم تتساقط من فمه كالسيول ، بسبب أو بدون سبب ، سواء كان الموقف يحتمل أو لا يحتمل ، إذا كان غاضبا أو هادئا ، كما إنه انتهج مسلكا ملتويا جدا ليجبر الطلبة على تلقي درس خصوصي عنده في مادة الرياضيات ، فلقد كانت امتحانات الشهر ليست ذات قيمة ولا تؤثر على مجموع آخر العام إلا أنها تعكس المستوى الدراسي والاستيعابي للطالب ، لذا فامتحان مادة الرياضيات كان الأسوأ دائما ، نادرا ما تجد من ينجح فيه ، فمن ثم يقلق الأهالي في البيت على مستوى أولادهم ، فيجدوا أستاذ صبحي المنقذ والملجأ والملاذ في مادة الرياضيات.
كنت أكره هذا الأستاذ من أعماق قلبي ، بتعنته وبجاحته وشتائمه وأساليبه الملتوية ولفافة التبغ (السيجارة ) التي لا تفارق فمه وكان هذا فيما مضي ذنب لا يغتفر ،أن يدخل المدرس ليعلم الأدب قبل العلم ( شعار وزارة التربية والتعليم ) و هو يلوك لفافة تبغ في فمه ، هذه جريمة ، لست أدري ما هو الحال في المدارس تلك الأيام ؟
... رغم كراهيتي لذلك الأستاذ ، أستاذ صبحي ، إلا إنها كانت ممزوجة بالمرارة ، لأنه للأسف مسيحي ، نعم أنت لم تخطيء قراءة العبارة السابقة ، هذا الصبحي مسيحي الديانة والكل يعلم تلك المعلومة السخيفة التي تسيء لنا كثيرا ، فسيرته على كل لسان مما يحزننا جدا.
مرت الأيام ، نجحت بتفوق ، التحقت بكلية الطب ، صرت طبيب مسالك لامع ونسيت تماما أستاذ صبحي ، وبعد حوالي عشرين عاما ، رأيته ، نعم رأيته ، بالطبع تحول شعره الأسود إلي لون الثلج ، والتجاعيد غزت وجهه ، لكنه هو.
أغرب ما في الأمر ، هو أين رأيته ؟ رأيته في الكنيسة ، كنيستنا ، وهذه ــ في اعتقادي ــ أول مرة يذهب للكنيسة ، لكن الأغرب إنه تقدم للتناول ، ناولته كوب ماء بعد التناول ، فشكرني دون أن يتعرفني.
انتهى القداس وكان الفضول أقوى مني ، كيف حدث هذا ؟ الرجل يبدو إنه اختلف تماما ، حتى ملامحه صارت أكثر طيبة ، كيف حدثت تلك المعجزة ؟ كان الفضول ينهش أحشائي ، يجب أن أعرف ، يجب أن أعلم ، هل أصيب بسرطان الرئة ، فشعر أن الدنيا زائلة وتاب ؟ هل مات له عزيز ؟ فأثر ذلك فيه ، لكن ماذا سأقول له ؟
أخيرا قررت أن أقتحمه اقتحاما ( صباح الخير يا أستاذ صبحي ؟ أنا ….. كنت تلميذلك منذ 20 عاما في مدرسة…. الثانوية بنين ، هل تذكرني ؟
كانت بداية سخيفة جدا مني ، من الواضح إنه لا يتذكرني بتاتا ، يبدو أن 20 عاما في دراسة الطب ومزاولته تكفي لتغيير معالم الوجه ، بعد التعارف وكيف حالك والأسرة الكريمة وأتعشم أن تكون في خير حال وألا تكون مصابا بسرطان المثانة لأنه منتشر بكثرة بين المدخنين ( لا تنس إنني طبيب مسالك بارع )
( أستاذي العزيز ، لدي سؤال ، قد يكون غير لائق ولكني أحترق شوقا لمعرفة جوابه ، كيف ؟ كيف حدث هذا التغيير في حياتك ؟ آسف ، لكنك كنت بعيدا تماما ، ولم أشاهدك مرة واحدة في الكنيسة ، لقد كانت كل المدرسة تتحدث عنك ، ما سر هذا التغيير ؟ )
كنت أتوقع أن يغضب أو يستاء من السؤال ، لكنه ابتسم ابتسامة عذبة وقال لي في هدوء ( لن تصدق ما الذي غير حياتي ؟ إنه ابني ، فلقد تزوجت من امرأة تقية بذلت جهدها معي لأترك طريق الظلام ، لكن بلا جدوي ، وعندما أنجبت ، حرصت زوجتي على أن تذهب بابني الوحيد للكنيسة ، وقد تعلم كثيرا في مدارس الأحد ، وجدته ذات يوم يسألني لماذا دائما أشتم ؟ رغم أن الخادم قال لهم ( من قال لأخيه يا أحمق يستوجب نار جهنم ) ، كان طفلا في الصف الخامس الابتدائي وكنت أبا فاشلا ، حاولت أن أحافظ على شكل الأب في أعماقه ، سعيت لترك السباب ، لكن كان ذلك صعبا ، حاولت أن أبتعد عن السيجارة لكن كان ذلك مستحيلا ، لقد صارت هذه العادات جزءا لا يتجزأ من شخصيتي.
لكن حرصي على أن أحافظ على القدوة ، جعلني أصارع نفسي وذاتي وشهواتي ، وبعد سنين من الصراع نجحت ، ابتعدت عن السجائر ، تركت الشتيمة ، لقد أحببت حياتي مع الله ، فابتدأت أذهب للكنيسة كل أحد مع ابني الوحيد ، لقد نجح في تغيير دفة حياتي ، لقد نجح في تغييرى ، رغم سنوات عمره التي لا تتعدي 11 عاما.

لا يستهن أحد بحداثتك بل كن قدوة للمؤمنين في الكلام في التصرف في المحبة في الروح في الإيمان في الطهارة (1تي
www.tips-fb.com

إرسال تعليق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق