الأربعاء، 23 فبراير 2011

سامرى .. و مجروح - الجزء الأول

عندما دخلت إلى محطة الوقود القريبة من بيتنا كي أتزود بالوقود لسيارتي لم أكن قد سمعت بالحادث المؤسف الذي حدث لصاحبها, في الواقع أنني لم أكن معتاداً على إرتياد هذه المحطة لعلمي السابق بكراهية صاحبها لي. ولولا انشغالي الشديد في هذا اليوم وحاجة سيارتي الشديدة للوقود لما دخلت هذه المحطة, فصاحبها كان شخص متعصب لإيمانه ومعتقده, ولا يحب أن يتعامل مع من هو على شاكلتي من أتباع المسيح، واضعا في ذهنه أن صاحب الفكر الحقيقي والعبادة الحقيقية وأيضاً الديانة الحقيقية.
كان يعتقد أنه هو الأفضل إذ أنه يردد الشهادتين ويحرص على كل ما تمليه عليه عقيدته من فرئض وأحكام … كان تقييمه لمدى إيمان الرجل يتحدد بطول لحيته وأناقة اللباس الأبيض أما أنا صاحب اللباس الأوربي والذقن الحليقة فعميل غربي لا أفقه في العبادة ولا علاقة لي بالله مطلقا، أنا كافر بالنسبة له. وبناء على هذا التكوين الذهني الذي يملكه كنت لا أسلم من لسانه السليط وسخريته اللازعة كلما جئت لأزود سيارتي بالوقود
ولكن اليوم كانت سيارتي تحتاج إلى الوقود بشده ولا مجال لأن أقودها لأبعد من ذلك فدخلت المحطة وأنا أصلي إلى الله أن يعطيني روح الصبر والتسامح في تحمل دعاباته السخيفة. وعندما دخلت وجدت ابنته الشابة وهي تقف أمام الوقود تزود السيارات على غير العادة. وعندما نظرت إليها وجدت عيناها وقد تورمت من البكاء إلي حد فظيع مما استرعى انتباهي فنزلت من سيارتي بسرعة واتجهت إليها قائلا
- ماذا حدث يا بنيتي؟ أين والدك؟
- ألم تعلم بالحادث يا سيدي؟
- كلا, ماذا حدث؟
- لقد وقع بالأمس في مرجل القار المغلي, وأخرجناه إلى المستشفى وهو في حالة يرثى لها. أنه الآن بين الحياة و الموت .. وكل عائلتي تزوره الآن … توقفت تلتقط أنفاسها ثم صرخت باكية
- والدي يموت يا سيدي .
نظرت إليها في شفقة وربت على كتفها قائلا :
- هوني عليك يا بنيتي, إن رحمة الله واسعة … زوديني بالوقود سريعا و أعطيني عنوان المستشفى حتى أذهب إليه
- لا داعي يا سيدي, سيظن أنك شامتا فيه وسيمطرك بالكثير من السباب
تجاهلت مخاوفها وأسرعت أحثها على الكلام
- بسرعة يا بنيتي كي لا أتأخر.
وخرجت من محطة الوقود وأنا ملئ بالمشاعر المتضاربة, كانت آخر مرة تعاملت فيها مع ذلك الرجل السليط اللسان كانت من خلال ابنتي الصغيرة, في الأسبوع الماضي, كانت الدنيا شتاء والبرد قاصي, والصقيع قد ملأ المكان, وكانت لدينا مدفأة قديمة تعمل بالجاز فقررنا أن نشغلها نتيجة لهذا الطقس البارد … ولكن لم يكن بالبيت أي جاز كي نملأ به المدفأة. فألبست ابنتي الصغيرة الكثير من الثياب وأعطيتها وعاء تضع فيه الجاز وأرسلتها إليه. ولكن عندما ذهبت اليه أمطرها بوابل من الشتائم ورفض أن يعطيها الجاز رغم أن معها ثمنه وطردها قائلا:
- دعي والدك الكافر يجعلك تستدفئن بصلاته.
وعندما ولت راجعة تابع صراخه فيها قائلا
- أو ربما يميته الله في هذه الليلة فيستدفئ هو في نار جهنم. وقتها أعطيك أنا الذي يدفئكم أنتم.
لم أعرف السر وراء غلظة قلبه وسلاطة لسانه, لم أفهم … كان الرجل صعب المراس جدا ولسانه سبب له في مشاجرات كثيرة. ووقع في أزمات كثيرة ولولا موقعه المتميز لفقد الكثير من زبائنه.
والآن ها هو قد وقع في الزيت المغلي, لم أفهم كيف حدث هذا على الرغم من أن البنت شرحت لي ولكني لم أستطع أن أتخيل الموقف. ولكني عرفت أنه نتاج هذا الحادث فقد جلده كله, ويعيش الآن في ألم مبرح منذ الأمس. وفرصته في الحياة شبه معدومة.
***
وصلت الى المستشفى وبسرعة اتجهت الى قسم الحروق, كان الجو متوترا جدا, والعائلة كلها كانت متجمعة, بسرعة دخلت اليه وما أن رآني من بعيد حتى صرخ
- أخرج من هنا, هل جئت كي تتأكد من موتي يا عميل الشيطان.. ابتعد ..
وكان صوته عاليا فخرجت مسرعا حتى لا تكون هناك فضيحة داخل المستشفى ولكني ذهبت الى الطبيب وسألته عنه فقال لي
- لقد فقد الكثير من جسده , وحياته شبه منتهية, ولكنه الآن يحتاج إلى كثير من الدم.
- أستطيع أنا أن أعطيه بعض الدم.
لوى الدكتزر شفتيبه ممتعضا، ثم قال:
- نحن نقوم ببذل مجهود بلا أمل, وهو كلما يعيش أكثر يتألم أكثر فلو تركناه..
قاطعته وقلت بسرعة
- تكون قد ارتكبت جريمة في حقه يا دكتور, المحاولة هي أهم شئ وليفعل الله ما يراه مناسبا.
- لست أدري ماذا تفيده أن أزوده من عمره تلك الساعات القلائل, هو سيعيشها في ألم , لولا المسئولية لكنت قتلته رحمة به.
- أنت لا تستطيع أن تُنقِص أو تُزيد من عمر أي إنسان يا دكتور, هو الرب, ومن يدري, فقد يحتاج المرء إلى دقائق قليلة تغير مصيره كله يا سيدي الطبيب, وليس من حق أي إنسان أن ينقص ثانية واحدة من عمر إنسان آخر, في شريعة السماء هذا أسمه قتل … هل ستأخذ مني الكمية التي تريدها من دم؟
- نظر إلى ساخرا وقال
- يبدوا أنك تحبه كثيرا, هل هو قريبك؟
- نعم.. هو قريبي
- ما صلة القرابة؟
- أنا سامري, وهو مجروح
- لم أفهم صلة القرابة !
- في الكتب المقدس يحدثنا السيد المسيح عن رجل كان ملقى على الأرض بين الموت والحياة ووجده سامريا, فأنقذه ولقبه المسيح أنه قريبه, رغم حالة العداء من جهة الجسد
- إذن , أنت عدوه من جهة الجسد.
- هو يقول.
- لكنك لن تنجح في إنقاذه.
- من يدري؟
***
ساعات تمر وأنا جالس أمامه في المستشفي، لقد سحبوا مني الكثير من الدم, وهو الآن في غيبوبة الله وحده يعرف متي يستفيق منها. وفجأة فاجأتني صرخة هائلة، ألم فظيع يشعر به ذلك الرجل .. كان الله في عونه … اتجه بنظره إلى ولكنه لم يصرخ.. بل قال
- أنت لا زلت هنا؟!
- كيف حالك أيها البطل
- أنت أعطيتني دماً.. أليس كذلك؟
- نعم.
دمعت عيناه تأثراً وقال
- لماذا.. لماذا لم تتركني أموت؟
وتحولت الدموع إلى بكاء، فتقدمت جهته وقلت
- كيف اتركك تموت الآن .. وأنت شخص عزيز جداً علي وأيضاً عزيز في عيني الرب.. هل تعلم أين أنت ذاهب إذا انتقلت الآن؟!
- إلى الجحيم
قالها صارخاً.. فقلت له
- هل رأيت عذاب الحرق؟ .. هل تستطيع أن تحتمل هناك، وإلى الأبد؟

TO BE CONTINUED >>>
www.tips-fb.com

إرسال تعليق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق